الأسد على مفترق طرق- رحيل مُرتقب ومستقبل غامض لسوريا

حثت السفارة الروسية في دمشق مواطنيها، يوم الجمعة الموافق 6 كانون الأول/ديسمبر الجاري، على "مغادرة الأراضي السورية"، مشيرة إلى التدهور الحاد في الأوضاع العسكرية والسياسية التي تشهدها الجمهورية العربية السورية.
وذكر مصدر أمريكي رفيع المستوى لوكالة بلومبيرغ الإخبارية أن "روسيا الاتحادية لا تضع في الحسبان أية خطط لإنقاذ الرئيس السوري بشار الأسد، ولا تتوقع ظهور مثل هذه الخطة على الإطلاق، طالما أن الجيش السوري النظامي يواصل الانسحاب والتخلي عن مواقعه".
وفي السياق ذاته، صرح الناطق الرسمي باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، يوم الخميس الموافق 5 كانون الأول/ديسمبر الجاري، بأن "روسيا تراقب عن كثب وباهتمام بالغ التطورات المتسارعة في الأراضي السورية، وتقوم بتقييم دقيق للوضع على الأرض بهدف تحديد حجم الدعم اللازم لسوريا في حربها ضد الجماعات المسلحة، والقضاء على التهديدات التي تمثلها".
يستشف المحللون والمراقبون للشأن السوري دلالات جمة من الموقف الروسي، الذي كان من المفترض أن يكون أكثر صلابة وحزماً في الدفاع عن النظام السوري، الذي فتح الأبواب على مصراعيها للوجود الروسي المكثف في المنطقة، تحديداً على ساحل البحر الأبيض المتوسط، في ميناء طرطوس الاستراتيجي. إلا أن الروس باتوا يدركون تمام الإدراك أن القرار قد اتخذ بشأن مصير الأسد، الذي لم يعد أمامه سوى خيار واحد لا ثاني له، ألا وهو الرحيل الحتمي.
لم يكن الأسد قارئاً جيداً للإشارات والرسائل التي وجهت إليه، ولهذا السبب تحديداً وقع في سلسلة من الأخطاء الفادحة التي سترسم بكل تأكيد نهاية لحكمه الذي طال أمده في سوريا. فرفضه القاطع لضبط الحضور الإيراني وحلفائه المتزايد في سوريا، وعلى رأسهم "حزب الله" اللبناني، وإصراره المستمر على تصنيف معارضيه السياسيين والعسكريين كجماعات إرهابية، دون محاولة جادة للقائهم في منتصف الطريق للتحاور والتناظر حول مستقبل البلاد، كان خطأً جسيماً سيدفع النظام السوري ثمنه غالياً، وسيؤثر بشكل كبير على استمراريته في السلطة.
يرى الكثيرون أن الأسد بات مهدداً بشكل حقيقي بالرحيل القريب عن دمشق، ولا يحتاج الأمر إلا إلى قراءة متأنية للموقف الروسي، بدءاً من التصريح العلني بعدم وجود أية خطة لإنقاذه، وصولاً إلى التحركات الروسية الملموسة على أرض الواقع، وعلى رأسها الحديث عن مغادرة بعض المدمرات الروسية ميناء طرطوس، ومطالبة الرعايا الروس بمغادرة الأراضي السورية في أقرب وقت ممكن؛ كلها مؤشرات قوية تعجل برحيله الوشيك، وتدفع بقوة نحو الاستعداد للمرحلة السورية التي ستعقب الأسد حتماً.
لكن السؤال الملح الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل سيكون لدى الأسد متسع من الوقت ليقول وداعاً، وعلى متن أية مدمرة أو طائرة سيغادر البلاد؟
فما إن وضعت الحرب الإسرائيلية على "حزب الله" في لبنان أوزارها، وانتهت بتسوية هشة برعاية أميركية في الأربعاء الموافق 27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، حتى أتت المفاجأة المدوية من الشمال السوري، عندما شنت الفصائل المعارضة هجوماً واسع النطاق ومباغتاً على محافظة حلب وغيرها من المحافظات الأخرى. وفي وقت سابق، أعلن الجيش السوري النظامي خسارته لمحافظة حماة لصالح الفصائل المعارضة التي تمكنت من دخول المدينة والسيطرة عليها.
"خربشات" الحرب الدائرة رحاها في سوريا قد أخلت بشكل واضح بخارطة التوازنات الدقيقة في المنطقة، التي استقرت لسنوات طويلة على وضع أشبه بـ "الستاتيكو" بين القوى الإقليمية الفاعلة والمؤثرة في المنطقة. هذا الوضع تحديداً أعطى استقراراً نسبياً للنظام السوري بقيادة بشار الأسد، حيث تمكن من بسط نفوذه على ما يقدر بحوالي 60% من الأراضي السورية، وذلك بدعم روسي وإيراني لا يخفى على أحد، رغم الخلافات العميقة والتباينات الكبيرة بين القيادة الروسية والإيرانية التي ظهرت للعلن في نقاط كثيرة، لا سيما بعدما وضعت موسكو "فيتو" أمام طهران التي عمدت إلى فتح جبهة الجولان دعماً ومساندة لـ "حزب الله" في لبنان.
لقد تشظت الأوراق وتطايرت من يد الأسد، في ظل التحرك التركي النشط، حيث أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن أمله في أن "يتواصل تقدم مقاتلي المعارضة في سوريا من دون أية مشاكل". هذه التصريحات تحمل في طياتها دلالة واضحة على أن تركيا تبدو غير منزعجة على الإطلاق من الأحداث المتسارعة التي تصب في صالحها، بعدما ذهب النظام السوري بعيداً في خياراته، نحو فتح قنوات اتصال مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تصنفها أنقرة كجماعة إرهابية.
يقدم الطيران الروسي دعماً جوياً مكثفاً وواضحاً للنظام السوري، ومن المتوقع أن تلعب القوى الداعمة لبقاء الأسد – ليس حباً فيه، بل لأنه يجسد مشروعها ونفوذها في المنطقة، وعلى رأسها إيران وفصائلها المتعددة – دوراً محورياً في مساندة الأسد.
فقد أطلق رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق، فالح الفياض، تصريحاً مثيراً للجدل اعتبر فيه أن أمن واستقرار العراق يمثل مسؤولية مشتركة للجميع، وأنه لا يمكن للعراق أن يغض الطرف عما يحدث في سوريا من تطورات متسارعة.
هناك أمور كثيرة تسارعت في إسقاط ورقة الأسد، وتحويله إلى مجرد ورقة تفاوضية بيد موسكو، وعلى رأسها الموقف التركي الداعم والمساند للفصائل المعارضة، حيث إن روسيا بحاجة ماسة إلى أنقرة كحليف ثابت وموثوق به في مواجهة الهجوم الغربي الشرس.
كما أن تركيا قد أبدت حسن نية تجاه روسيا عندما رفضت المشاركة في فرض عقوبات غربية على موسكو، وهي إلى الآن تقف كحجر عثرة أمام تمادي حلف شمال الأطلسي (الناتو) في مواجهة روسيا. ولهذا السبب، تجد موسكو أن من صميم مصالحها توطيد العلاقة مع أنقرة، حتى لو كلف الأمر أن يكون الأسد رئيساً لمحافظة دمشق فقط، أو المساومة على رحيله مقابل ضمان مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية في المنطقة.
كان من المتوقع أن يشتعل الميدان السوري في ظل تصاعد الحديث عن دخول الآلاف من مقاتلي "حزب الله" إلى الأراضي السورية لمساندة بشار الأسد، مع وجود أوراق تفاوضية حساسة على أكثر من طاولة مستديرة للاعبين الإقليميين والدوليين، بهدف تحديد مصير هذا الرجل الذي يحكم سوريا منذ سنوات طويلة.
لكن ما لم يكن في الحسبان على الإطلاق، هو التحول المدهش الذي قام به زعيم "هيئة تحرير الشام"، أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، في إسقاط السرديات الكاذبة التي لطالما استخدمها النظام السوري ومن معه، من خلال إطلاق صفة الإرهاب جزافاً على كل من يعارضه.
وفي مقابلة حصرية مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية المرموقة، نشرت يوم الجمعة الموافق 6 كانون الأول/ديسمبر الجاري، أكد الجولاني بشكل قاطع أن الهدف الرئيسي للمعارضة السورية هو كسر شوكة الأسد، وإقامة دولة المؤسسات والقانون التي تحترم حقوق الإنسان، حيث قدم مشروعاً طموحاً لبناء سوريا جديدة، مؤكداً أن "هيئة تحرير الشام" قد تتفكك في أي وقت، لأنها ليست غاية في حد ذاتها، بل مجرد وسيلة لتحقيق هدف أسمى.
يسيطر الضباب الكثيف على المشهدية المعقدة في سوريا، وهناك لاعبون كثر باتوا يتحركون بحرية في ساحة هذا الصراع الدامي، مع الحديث عن دخول الدبابات الإسرائيلية بلدة القنيطرة السورية، بهدف حماية حدودها في حال سقط النظام السوري، ووصلت الفصائل المعارضة إلى الحدود معها.
ولهذا السبب، تبقى كافة الفرضيات المطروحة مقبولة، حتى فرضية رحيل الأسد الوشيك، وحينها لن يجد من يودعه أو يلوح له بيده، أو يعده بالعودة إلى سوريا مجدداً.